Saturday, November 27, 2004

في الثانية والستين

كان يوسف في الثانية والستين في العام الثاني بعد الألفين، أستيقظ مبكراً في أحد أيام الخريف في شقته بوسط المدينة، عبر ببذلته القديمة ميدان طلعت حرب ونظر على الجرائد ولم يشتري كعادته الدائمة، رأى بعض الأطفال الصغار ذاهبين للمدرسة القريبة بوجوه بائسة لكنها تبتسم، حاول شراء بعض الحلوى لهم، على غرار الجد الطيب لكنه تذكر إنه من الصعب عدم توفير المال، خاصة إن معاشه الآن صغير، ولو هدمت العمارة القديمة التي يسكنها ربما هو الذي سينتظر الإحسان منهم

مر من أمام كافيه ريش إلى ممر أستوريل إلى الجريون من أمام نادي السيارات، وعلى الناحية الآخرى كان العمال قد أتوا منذ تلك الساعة المبكرة ليكملوا إنشاء فرع البنك المصري الأمريكي، لم ينظر إليهم لأنه كان يفكر في تلك الأماكن، كم من مرة شهدت ضحكه حيناً وسكره حيناً وإندهاشه عند سماعه الأخبار من أصدقائه، فريد تزوج، السادات أغتيل، رفيق توفى وهو يأكل المحشي، الأتحاد السوفيتي تفكك، الفتاة التي كنت تحبها تزوجت من ظابط مرموق، لم ينجح شريف في إيجاد وظيفة لك أفضل من تلك، لكنه لم يكن حزيناً، كان حقاً مندهشاً من إنه الوحيد الذي بقى، من بقى منهم في الحياة لم يعد هنا فوليد قد سكن مدينة نصر منذ سنوات بعيدة، ومحسن سافر لأمريكا، حيث قيل إنه قد قابل مريم التي سافرت قبله وتزوجها، ظل يحلم بيوم عودتهم بأطفال يشبهون مريم الجميلة أو محسن خفيف الظل، ظل يحلم بزيارة واحدة منهم أو من هشام الذي إختفى تماماً ولم يعلم أحد عنه شيئاً بعد الزلزال بعام، أي منذ تسعة سنوات، لم يبحث أحد على هشام مثلما فعل لكن دون نتيجة

شعر ببعض الضيق حين إقترب من ميدان التحرير ورأى إعلان مسرحية دو رى مي فاصوليا، ذهب إلى البيت لينظر من خلف الزجاج على النظام الجميل للسيارات في ميدان طلعت حرب، تأمل قليلاً الرجل الملتحي الذي يلبس جلباباً أبيض وينادي بالميكروفون للتبرع لبناء مسجد وهو معه الوصولات، أزعجه صوته المتضخم، فأدار موسيقاه المفضلة وعاد ينظر من النافذة حيث رأى بعض العمال بينهم بعض الأطفال يغيرون بلاط الميدان ليضعوا بلاطاً أخر من رخام زلق، تخيل نفسه وهو ينزلق فيضحك عليه المارة، تذكر حين ضحكوا عليه لأنه لأنه لأنه، يقف تفكيره مشلولاً مع شعوره بتلك النصال في قلبه، فبينما تحت بيته كان باسم-إبن وليد الذي سكن مدينة نصر منذ سنوات بعيدة-يضغط على ألة تنبيه سيارته الجديدة فيعلو صوتها على صوت الموسيقى، كان يحاول، بلا فائدة أن يتذكر أين ترك الدواء، خرجت سيارة باسم من الميدان وخرج آخر أنفاسه، فقط قبل شهر ونصف من قرار هشام أن يعود ليراه

في ذلك الوقت كان الشتاء قد بدأ، كان هشام دائماً يحب الشتاء، شعر بأنه يتنفس فعلاً حين أدار ظهره لميدان التحرير وغاص في وسط المدينة، يتذكر هو الآخر، وكأنهم خسروا كل شييء في ليلة مقامرة مغشوشة وطويلة طول العمر ذاته ولم يجدوا شيئاً يكملوا لعبهم به سوى الذكريات كمن يقامر بسرواله
يتذكر حين كان يقنع الكثيرين بأراؤه، يتذكر حين كان يظن إن الأشجار تنموا في زمن أسرع من قطعها، يتذكر حين ظن إن من يصدقوا على قوله يصدقوه حقاً بل ويحبوه هو وليس أفكاره

نظر عند بائع الجرائد فرأى تلك الفتاه الجميلة على إحدى المجلات، لا يعرف إنها الفنانة الشابة التي دخلت كل البيوت من التلفزيون أثناء رمضان، تخيل إنه أصغر بخمسة وثلاثون عام وهي في السن الذي تجعلها صورة الغلاف تبدو عليه، وهم يعملون معاً، تهتم بذات الأشياء، رقيقة جداً لكنها جريئة، يتخيلها مخطوبة له، وهم معاً في جنازة رفيق، تقرأ له قصيدة أوقفوا الساعات لاودن بإنجليزية واضحة لا تفسد التناغم، يبدأ في البكاء فتحتضنه لأنه في الواقع بكى يومها لساعات وحده حين أصطدم أحد المارين المتعجلين به فأستيقظ من ذلك الحلم ليجد إن المجلة قد بيعت كل أعدادها، أستدار ليكمل طريقه لبيت يوسف، لكنه لم يكن في سن يسمح له بهذه الإستدارة السريعة على هذا الرخام الزلق

كسر فخذه، وأثناء الفحوصات الروتينية أكتشفوا إن سرطان الرئة يشاطره جسده منذ فترة ليست بقليلة، عندما علم تمنى أن يموت وياسمين بجانبه، لكن ياسمين الآن مشغولة مع وليد-الذي سكن مدينة نصر منذ سنوات بعيدة- زوجها في تجهيز حفل زفاف إبنهم

بلا هشام بلا يوسف بلا وليد بلا دوشة
كفانا قصصاً خيالية
فلنبداً واحدة واقعية

سأكون في الثانية والستين في العام الرابع والأربعين بعد الألفين، سأستيقظ مبكراً في أحد أيام الخريف وأعبر ببذلتي القديمة ميدان طلعت حرب وأنظر على الجرائد ولا أشتري

0 Comments:

Post a Comment

<< Home