Saturday, November 27, 2004

صيغة المفرد

لأنني رفضت أن أظل على السطح أعلو وأهبط مع الأمواج، رفضوا أن أركب السفينة معهم، قررت أن أغوص وأرى السفينة وهي تبحر من الأسفل، يا لها من زاوية جديدة لم يراها ولن يراها أحد، وأبحرت السفينة ورحلت

لن يستمتعوا بألوان الأسماك الجميلة ولن أشعر بدوار البحر، لكن لا أنكر أيضاً إنهم سيرون السماء الصافية ولن يحملوا هم أسماك القرش كل يوم

الحقيقة إنني لم أركب معهم ليس فقط لأنني أكره بعضهم، وليس لخوفي وقلة شجاعتي، وليس لمخالفة القاعدة العامة، ولكن لأني أعرف أن هذه السفينة غارقة لا محالة، حاولت إنذارهم فلم يجيبوا سوى بأن أسماك القرش حقاً خطيرة، وظللت أحدثهم عن إمكانية تفادي خطر أنيابها لكن نسيت أن أقول إن كل ما يخص الأسماك لا يلغي إن تلك السفينة هي قبر متحرك ينتظر سماع أجراس الكنيسة ليبدأ جنازته البائسة

هم ماتوا سوياً، وأنا سأعيش سنوات مديدة

ومع حصولي على الفخر بإنتصاراتي على أسماك القرش والفرح بأسماكي الملونة والتأكد من صدق حدسي لم ألحظ إنني حصلت مع ذلك على صيغة المفرد

في الثانية والستين

كان يوسف في الثانية والستين في العام الثاني بعد الألفين، أستيقظ مبكراً في أحد أيام الخريف في شقته بوسط المدينة، عبر ببذلته القديمة ميدان طلعت حرب ونظر على الجرائد ولم يشتري كعادته الدائمة، رأى بعض الأطفال الصغار ذاهبين للمدرسة القريبة بوجوه بائسة لكنها تبتسم، حاول شراء بعض الحلوى لهم، على غرار الجد الطيب لكنه تذكر إنه من الصعب عدم توفير المال، خاصة إن معاشه الآن صغير، ولو هدمت العمارة القديمة التي يسكنها ربما هو الذي سينتظر الإحسان منهم

مر من أمام كافيه ريش إلى ممر أستوريل إلى الجريون من أمام نادي السيارات، وعلى الناحية الآخرى كان العمال قد أتوا منذ تلك الساعة المبكرة ليكملوا إنشاء فرع البنك المصري الأمريكي، لم ينظر إليهم لأنه كان يفكر في تلك الأماكن، كم من مرة شهدت ضحكه حيناً وسكره حيناً وإندهاشه عند سماعه الأخبار من أصدقائه، فريد تزوج، السادات أغتيل، رفيق توفى وهو يأكل المحشي، الأتحاد السوفيتي تفكك، الفتاة التي كنت تحبها تزوجت من ظابط مرموق، لم ينجح شريف في إيجاد وظيفة لك أفضل من تلك، لكنه لم يكن حزيناً، كان حقاً مندهشاً من إنه الوحيد الذي بقى، من بقى منهم في الحياة لم يعد هنا فوليد قد سكن مدينة نصر منذ سنوات بعيدة، ومحسن سافر لأمريكا، حيث قيل إنه قد قابل مريم التي سافرت قبله وتزوجها، ظل يحلم بيوم عودتهم بأطفال يشبهون مريم الجميلة أو محسن خفيف الظل، ظل يحلم بزيارة واحدة منهم أو من هشام الذي إختفى تماماً ولم يعلم أحد عنه شيئاً بعد الزلزال بعام، أي منذ تسعة سنوات، لم يبحث أحد على هشام مثلما فعل لكن دون نتيجة

شعر ببعض الضيق حين إقترب من ميدان التحرير ورأى إعلان مسرحية دو رى مي فاصوليا، ذهب إلى البيت لينظر من خلف الزجاج على النظام الجميل للسيارات في ميدان طلعت حرب، تأمل قليلاً الرجل الملتحي الذي يلبس جلباباً أبيض وينادي بالميكروفون للتبرع لبناء مسجد وهو معه الوصولات، أزعجه صوته المتضخم، فأدار موسيقاه المفضلة وعاد ينظر من النافذة حيث رأى بعض العمال بينهم بعض الأطفال يغيرون بلاط الميدان ليضعوا بلاطاً أخر من رخام زلق، تخيل نفسه وهو ينزلق فيضحك عليه المارة، تذكر حين ضحكوا عليه لأنه لأنه لأنه، يقف تفكيره مشلولاً مع شعوره بتلك النصال في قلبه، فبينما تحت بيته كان باسم-إبن وليد الذي سكن مدينة نصر منذ سنوات بعيدة-يضغط على ألة تنبيه سيارته الجديدة فيعلو صوتها على صوت الموسيقى، كان يحاول، بلا فائدة أن يتذكر أين ترك الدواء، خرجت سيارة باسم من الميدان وخرج آخر أنفاسه، فقط قبل شهر ونصف من قرار هشام أن يعود ليراه

في ذلك الوقت كان الشتاء قد بدأ، كان هشام دائماً يحب الشتاء، شعر بأنه يتنفس فعلاً حين أدار ظهره لميدان التحرير وغاص في وسط المدينة، يتذكر هو الآخر، وكأنهم خسروا كل شييء في ليلة مقامرة مغشوشة وطويلة طول العمر ذاته ولم يجدوا شيئاً يكملوا لعبهم به سوى الذكريات كمن يقامر بسرواله
يتذكر حين كان يقنع الكثيرين بأراؤه، يتذكر حين كان يظن إن الأشجار تنموا في زمن أسرع من قطعها، يتذكر حين ظن إن من يصدقوا على قوله يصدقوه حقاً بل ويحبوه هو وليس أفكاره

نظر عند بائع الجرائد فرأى تلك الفتاه الجميلة على إحدى المجلات، لا يعرف إنها الفنانة الشابة التي دخلت كل البيوت من التلفزيون أثناء رمضان، تخيل إنه أصغر بخمسة وثلاثون عام وهي في السن الذي تجعلها صورة الغلاف تبدو عليه، وهم يعملون معاً، تهتم بذات الأشياء، رقيقة جداً لكنها جريئة، يتخيلها مخطوبة له، وهم معاً في جنازة رفيق، تقرأ له قصيدة أوقفوا الساعات لاودن بإنجليزية واضحة لا تفسد التناغم، يبدأ في البكاء فتحتضنه لأنه في الواقع بكى يومها لساعات وحده حين أصطدم أحد المارين المتعجلين به فأستيقظ من ذلك الحلم ليجد إن المجلة قد بيعت كل أعدادها، أستدار ليكمل طريقه لبيت يوسف، لكنه لم يكن في سن يسمح له بهذه الإستدارة السريعة على هذا الرخام الزلق

كسر فخذه، وأثناء الفحوصات الروتينية أكتشفوا إن سرطان الرئة يشاطره جسده منذ فترة ليست بقليلة، عندما علم تمنى أن يموت وياسمين بجانبه، لكن ياسمين الآن مشغولة مع وليد-الذي سكن مدينة نصر منذ سنوات بعيدة- زوجها في تجهيز حفل زفاف إبنهم

بلا هشام بلا يوسف بلا وليد بلا دوشة
كفانا قصصاً خيالية
فلنبداً واحدة واقعية

سأكون في الثانية والستين في العام الرابع والأربعين بعد الألفين، سأستيقظ مبكراً في أحد أيام الخريف وأعبر ببذلتي القديمة ميدان طلعت حرب وأنظر على الجرائد ولا أشتري

Sunday, November 14, 2004

أفكار متداعية

يمكنك أن تنكر وجود الله لكنك لا يستطيع أن تقول أن الكون ليس له معنى لأنه حتى بالحسابات العلمية احتمالية ظهور الحياة ضعيفة جداً، ناهيك من أن تطورها بهذا الشكل المعقد حتى بلوغها القمة في الإنسان هي احتمالية شبه مستحيلة لو كان الكون والحياة مصادفة. دعك من التساؤل عن مصدر الأخلاق لأن ذلك موضوع آخر حتى وإن أتصل كثيراً بموضوعنا

للكون معنى، سمه ما تشاء، العقل الأسمى(مثل هيجل)، الله(مثل ديانات الوحي)، المحرك الأول والعلة الأولى(مثل أرسطو)، غاية المادة في ذاتها(تصبح بذلك في تناقض لأنك تفترض أن المادة الغاشمة لها عقل يضع المعنى، أظن أسبينوزا وقع في ذلك)

للكون غاية، للحياة معنى، ولكن هل لحياتي معنى

أين المعنى حين أتحول إلى رقم في الجريدة، سقوط سبعة قتلى، أنا منهم، ما الفرق بالنسبة لك إن أصبح الرقم أكثر أو أقل، ما الفرق بيني (أنا الموضوعي إلى أقصى حد) وبين الكمبيوتر، ماذا إن هلكت، نعي في الجريدة، شهادة في السجل المدني، حزن في المنزل، راحة في نفوس الأعداء، مزيد من الوحدة في نفوس الأصدقاء، مكان خالي بالمقهى، أسم يخبو في ذاكرة الجميع

أصبح إختفاء إنسان كفقدان ضرس، مجرد فراغ مقلق إلى حين عند البعض، وهو قلق لا يدركه إلا من يعاني منه حتى وإن كان واقفاً في ساعة الذروة بمترو الأنفاق.

الأنفاق تذكرني بكلمة نفق، التي تطلق على موت الحيوانات، أظن إنه من الأنسب أن نضعها في الجرائد حينما نتحدث عن البشر، لا تغضبوا مني، فما الفرق بالنسبة لك بين موت خمسين طفل في سييرا ليون وبين موت مثلهم من البقر بمرض ما، ما الفرق سوى أنه في الحالة الثانية ربما سترتفع أسعار اللحوم

أرفض وجود واقع مغاير في العالم الآخر، فلن أقفز القفزة السحرية من عالم اللامعنى إلى العالم الحقيقي الأفلاطوني، أو العلاقة اللامحدودة الصوفية، أو حتى الملكوت المسيحي لأنه لم يعد بيننا، فكيف لي أن أرى ملائكة الله صاعدين نازلين فوق ابن الإنسان في الوقت الذي ربحت فيه المنطق الكامل فضاع مني النقص الذي يجعل مني إنسان

لا أرفض وجود المعنى، ولكنني أتكلم عما أعيشه، حين يصبح العبث أقوى من معنى محاولات إيجاد المعنى

ملحوظة: المعلومات والتعبيرات الفلسفية المذكورة قد تكون غير دقيقة، لكن هل هذا يشكل فارقاً مع أحد

لماذا أتكلم، لا أنا حاسس ولا حد فاهم ولا يحزنون

Saturday, November 06, 2004

من سونيتات رلكه

وحينما ينكرك العالم
قل للأرض الساكنة: أنا أتدفق
وللماء الدافق قل: أنا باق

للشاعر الالماني راينر ماريا رلكه

ترجمة: حسن حلمي

السونيتات - الجزء الثاني - رقم 29

Thursday, November 04, 2004

مثل عظمة دجاجة

مثل عظمة دجاجة في يد طفل عابث، أكل ما حولها من لحم وألقاها من نافذة السيارة بالطريق الصحراوي، حيث ظلت بين الأتربة وحرارة الشمس لعقود، هكذا صارت نفسي، لا شيء يتغير سوى أنواع السيارات التي تمر سابقة الزمن وأنا لا أزال أبحث عن الحروف في لوحة المفاتيح حيث طمست الحروف العربية من عليها كما طمس الزمن حلمي بغد أفضل لي وسط كفاح مئات العمال معي لبناء غد أفضل للجميع.
وبرغم من أنني حين حركت عيني حولي فلم أجد من العمال سوى ما يقل عن عدد ساعات سعادتي، ولم تكن حالتهم أفضل مني. وبرغم كوني حملت مشعل الضوء للسائرين في الأمام فلم أرى الذي جاء من الخلف، إلا إنني لا زلت أدفع الحجر وسط باقي العمال، لا زلت أشجعهم، لا أعلم هل لدي اختيار آخر أم لا ولكن إن كان أمامي لما اخترته، ليس تمسكاً بالقضية بقدر ما أصبحت أكبر سناً وأكثر خوفاً وأقل شجاعةً وقدرة على الدخول في طرق أخرى وإن كانت أسهل، وربما كما قلنا قديماً عن عدم استطاعة آكل الكباب أن يأكل الفول ربما حان الوقت كي نضيف أن أكل الكباب يصيب بالآم النقرس.

تحيطني الفوضى، أسبح في اللامعني، فأين المعني والعقل يحمله جسم متعب ونفس مثل عظمة دجاجة في يد طفل عابث، أكل ما حولها من لحم وألقاها من نافذة السيارة بالطريق الصحراوي، حيث ظلت بين الأتربة وحرارة الشمس لعقود.